فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

{تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} أي تعلم ما في غَيْبي ولا أعلم ما في غَيْبك.
وقيل: المعنى تعلم ما أعلم ولا أعلم ما تعلم.
وقيل: تعلمْ ما أخفيه ولا أعلم ما تُخفيه.
وقيل: تعلم ما أريد ولا أعلم ما تُريد.
وقيل: تعلم سِرّي ولا أعلم سِرّك؛ لأن السرّ موضعه النفس.
وقيل: تعلم ما كان مني في دار الدنيا، ولا أعلم ما يكون منك في دار الآخرة.
قلت: والمعنى في هذه الأقوال متقارب؛ أي تعلم سرّي وما انطوى عليه ضميري الذي خلقته، ولا أعلم شيئًا مما استأثرت به من غَيْبك وعلمك. اهـ.

.قال أبو السعود:

{تَعْلَمُ مَا في نَفْسِى} استئنافٌ جارٍ مجرى التعليل لما قبله كأنه قيل: لأنك تعلم ما أُخفيه في نفسي، فكيف بما أُعلنُه؟ وقوله تعالى: {وَلاَ أَعْلَمُ مَا في نَفْسِكَ} بيانٌ للواقع وإظهارٌ لقصوره، أي ولا أعلم ما تُخفيه من معلوماتك، وقوله: {فِى نَفْسِكَ} للمشاكلة. وقيل: المرادُ بالنفس هو الذاتُ، ونسبةُ المعلومات إليها لما أنها مرجعُ الصفات التي من جملتها العلمُ المتعلِّقُ بها، فلم يكن كنسبتها إلى الحقيقة. اهـ.

.قال ابن عاشور:

جملة {تعلم ما في نفسي} بيان لجملة الشرط {إن كنت قلته فقد علمته} فلذلك فُصلت.
والنفس تطلق على العقل وعلى ما به الإنسان، إنسان وهي الروح الإنساني، وتطلق على الذات.
والمعنى هنا: تعلم ما أعتقده، أي تعلم ما أعلمه لأنّ النفس مقرّ العلوم في المتعارف.
وقوله: {ولا أعلم ما في نفسك} اعتراض نشأ عن {تعلم ما في نفسي} لقصد الجمع بين الأمرين في الوقت الواحد وفي كلّ حال.
وذلك مبالغة في التنزيه وليس له أثر في التبرّىء، والتنصّل، فلذلك تكون الواو اعتراضية.
وإضافة النفس إلى اسم الجلالة هنا بمعنى العلم الذي لم يُطلع عليه غيره، أي ولا أعلم ما تعلمه، أي ممّا انفردت بعمله.
وقد حسّنه هنا المشاكلة كما أشار إليه في «الكشاف».
وفي جواز إطلاق النفس على ذات الله تعالى بدون مشاكلة خلاف؛ فمن العلماء من منع ذلك وإليه ذهب السعد والسيد وعبد الحكيم في شروح «المفتاح» و«التخليص».
وهؤلاء يجعلون ما ورد من ذلك في الكتاب نحو {ويحذّركم الله نفسه} [آل عمران: 28] من قبيل المتشابه.
ومن العلماء من جوّز ذلك مثل إمام الحرمين كما نقله ابن عرفة في «التفسير» عند قوله تعالى: {كتب ربّكم على نفسه الرحمة} في سورة الأنعام (54)، ويشهد له تكرّر استعماله في القرآن وكلام النبي كما في الحديث القدسي فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي. اهـ.

.قال الفخر:

تمسكت المجسمة بهذه الآية وقالوا: النفس هو الشخص وذلك يقتضي كونه تعالى جسمًا.
والجواب من وجهين: الأول: أن النفس عبارة عن الذات، يقال نفس الشيء وذاته بمعنى واحد، والثاني: أن المراد تعلم معلومي ولا أعلم معلومك ولكنه ذكر هذا الكلام على طريق المطابقة والمشاكلة وهو من فصيح الكلام. اهـ.

.قال الماوردي:

{إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ} يحتمل وجهين:
أحدهما: عالم السر والعلانية.
والثاني: عالم ما كان وما يكون.
وفي الفرق بين العالم والعلام وجهان:
أحدهما: أن العلام الذي تقدم علمه، والعالم الذي حدث علمه.
والثاني: أن العلام الذي يعلم ما كان وما يكون، والعالم الذي يعلم ما كان ولا يعلم ما يكون. اهـ.

.قال في الميزان:

(بيان) مشافهة الله رسوله عيسى ابن مريم في أمر ما قالته النصارى في حقه، وكأن الغرض من سرد الآيات ذكر ما اعترف به عليه السلام وحكاه عن نفسه في حياته الدنيا: أنه لم يكن من حقه أن يدعى لنفسه ما ليس فقد كان بعين الله التي لا تنام ولا تزيغ، وأنه لم يتعد ما حده الله سبحانه له فلم يقل إلا ما أمر أن يقول ذلك، واشتغل بالعمل بما كلفه الله أن يشتغل به وهو أمر الشهادة، وقد صدقه الله تعالى فيما ذكره من حق الربوبية والعبودية.
وبهذا تنطبق الآيات على الغرض النازل لاجله السورة، وهو بيان الحق المجعول لله على عباده أن يفوا بالعهد الذي عقدوه وأن لا ينقضوا الميثاق، فليس لهم أن يسترسلوا كيفما أرادوا وأن يرتعوا رغدا حيث شاؤا فلم يملكوا هذا النوع من الحق من قبل ربهم، ولا أنهم قادرون على ذلك من حيال أنفسهم، ولله ملك السماوات والأرض وما فيهن وهو على كل شيء قدير، وبذلك تختتم السورة.
قوله تعالى: {وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمى إلهين من دون الله} {إذ} ظرف متعلق بمحذوف يدل عليه المقام، والمراد به يوم القيامة لقوله تعالى فيها: {قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم} وقول عيسى عليه السلام فيها {وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتنى كنت أنت الرقيب عليهم}.
وقد عبرت الآية عن مريم بالامومة فقيل: {اتخذوني وأمى إلهين} دون أن يقال: {اتخذوني ومريم إلهين} للدلالة على عمدة حجتهم في الالوهية وهو ولادته منها بغيرأب، فالبنوة والأمومة الكذائيتين هما الأصل في ذلك فالتعبير به وبأمه أدل وأبلغ من التعبير بعيسى ومريم.
و«دون» كلمة تستعمل بحسب المآل في معنى الغير، قال الراغب: يقال للقاصر عن الشيء «دون» قال بعضهم: هو مقلوب من الدنو، والادون الدنى، وقوله تعالى: {لا تتخذوا بطانة من دونكم} أي من لم يبلغ منزلتكم في الديانة، وقيل: في القرابة، وقوله: {ويغفر ما دون ذلك} أي ما كان أقل من ذلك، وقيل: ما سوى ذلك، والمعنيان متلازمان، وقوله: {ءأنت قلت للناس اتخذوني وأمى إلهين من دون الله} أي غير الله، انتهى.
وقد استعمل لفظ {من دون الله} كثيرا في القرآن في معنى الاشراك دون الاستقلال بمعنى أن المراد من اتخاذ إله أو إلهين أو آلهة من دون الله هو أن يتخذ غير الله شريكا لله سبحانه في الوهيته لا أن يتخذ غير الله إلها وتنفى الوهية الله سبحانه فإن ذلك من لغو القول الذي لا يرجع إلى محصل فإن الذي أثبته حينئذ يكون هو الإله سبحانه وينفى غيره، ويعود النزاع إلى بعض الاوصاف التي أثبتها فمثلا لو قال قائل: إن الاله هو المسيح ونفى إله المسيح عاد مفاد كلامه إلى إثبات الاله تعالى وتوصيفه بصفات المسيح البشرية، ولو قال قائل: إن الاصنام أو أرباب الاصنام آلهة ونفى الله تعالى وتقدس فإنه يقول بأن للعالم إلها فقد أثبت الله سبحانه لكنه نعته بنعت الكثرة والتعدد فقد جعل لله شركاء، أو يقول كما يقوله النصارى: إن الله ثالث ثلاثة أي واحد هو ثلاث وثلاث هو واحد.
ومن قال: إن مبدأ العالم هو الدهر أو الطبيعة ونفى أن يكون للعالم إله تعالى عن ذلك فقد أثبت للعالم صانعا وهو الله عزاسمه لكنه نعته بنعوت القصور والنقص والامكان.
ومن نفى أن يكون لهذا النظام العجيب مبدأ أصلا ونفى العلية والتأثير على الرغم من صريح ما تقضى به فطرته فقد أثبت عالما موجودا ثابتا لا يقبل النفى والانعدام من رأس أي هو واجب الثبوت وحافظ ثبوته ووجوده إما نفسه وليس لطرو الزوال والتغير إلى أجزائه، وإما غيره فهو الله تبارك وتعالى، وله نعوت كماله.
فتبين أن الله سبحانه لا يقبل النفى إصلا إلا بظاهر من القول من غير أن يكون له معنى معقول.
والملاك في ذلك كله أن الإنسان إنما يثبت الإله تعالى من جهة الحاجة العامة في العالم إلى من يقيم أود وجوده ويدبر أمر نظامه ثم يثبت خصوصيات وجوده فما أثبته من شيء لسد هذه الخلة ورفع تلك الحاجة فهو الله سبحانه ثم إذا أثبت إلها غيره أو أثبت كثرة فإما أن يكون قد أخطأ في تشخيص صفاته والحد في اسمائه، أو يثبت له شريكا أو شركاء تعالى عن ذلك، وأما نفيه وإثبات غيره فلا معنى له.
فظهر أن معنى قوله: {إلهين من دون الله} شريكين لله هما من غيره، وإن سلم أن الكلمة لا تؤدى معنى الشركة بوجه، قلنا: إن معناها لا يتعدى إتخاذ إلهين هما من سنخ غير الله سبحانه وأما كون ذلك مقارنا لنفى الوهيته تعالى أو إثباتها فهو مسكوت عنه لا يدل عليه لفظ وإنما يعلم من خارج، والنصارى لا ينفون الوهيته تعالى مع اتخاذهم المسيح وامه إلهين من دون الله سبحانه.
وربما استشكل بعضهم الآية بأن النصارى غير قائلين بالوهية مريم العذراء عليه السلام، وذكروا في توجيهها وجوها.
لكن الذي يجب أن يتنبه عليه أن الآية إنما ذكرت اتخاذهم إياها إلهة ولم يذكر قولهم بأنها إلهة بمعنى التسمية، واتخاذ الاله غير القول بالالوهية إلا من باب الالتزام، واتخاذ الاله يصدق بالعبادة والخضوع العبودي قال تعالى: {أفرأيت من اتخذ إلهه هواه} (الجاثية: 23) وهذا المعنى مأثور عن أسلاف النصارى مشهود في أخلافهم.
قال الألوسي في روح المعاني: إن أبا جعفر الإمامي حكى عن بعض النصارى أنه كان فيما مضى قوم يقال لهم: «المريمية» يعتقدون في مريم أنها إله.
وقال في تفسير المنار: أما اتخاذهم المسيح إلها فقد تقدم في مواضع من تفسير هذه السورة، وأما امه فعبادتها كانت متفقا عليها في الكنائس الشرقية والغربية بعد قسطنطين، ثم أنكرت عبادتها فرقة البروتستانت التي حدثت بعد الإسلام بعدة قرون.
إن هذه العبادة التي توجهها النصارى إلى مريم والدة المسيح عليه السلام منها ما هو صلاة ذات دعاء وثناء واستغاثة واستشفاع، ومنها صيام ينسب إليها ويسمى باسمها، وكل ذلك يقرن بالخضوع والخشوع لذكرها ولصورها وتماثيلها، واعتقاد السلطة الغيبية لها التي يمكنها بها في اعتقادهم أن تنفع وتضر في الدنيا والاخرة بنفسها أو بواسطة ابنها، وقد صرحوا بوجوب العبادة لها، ولكن لا يعرف عن فرقة من فرقهم إطلاق كلمة «إله» عليها بل يسمونها «والدة الإله» ويصرح بعض فرقهم أن ذلك حقيقة لا مجاز.
والقرآن يقول هنا: إنهم اتخذوها وامها إلهين، والاتخاذ غير التسمية فهو يصدق بالعبادة وهى واقعة قطعا، وبين في آية أخرى أنهم قالوا: إن الله هو المسيح عيسى بن مريم، وذلك معنى آخر، وقد فسر النبي صلى الله عليه وآله وسلم قوله تعالى في أهل الكتاب: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله} أنهم اتبعوهم فيما يحلون ويحرمون لا أنهم سموهم أربابا.
وأول نص صريح رأيته في عبادة النصارى لمريم عبادة حقيقية ما في كتاب «السواعى» من كتب الروم الارثوذكس، وقد اطلعت على هذا الكتاب في دير يسمى «دير التلميد» وأنا في أول العهد بمعاهد التعليم، وطوائف الكاثوليك يصرحون بذلك ويفاخرون به.
وقد زين الجزويت في بيروت العدد التاسع من السنة السابعة لمجلتهم «المشرق» بصورتها وبالنقوش الملونة إذ جعلوه تذكارا لمرور خمسين سنة على إعلان البابا بيوس التاسع: أن مريم البتول «حبل بها بلا دنس الخطية» وأثبتوا في هذا العدد عبادة الكنائس الشرقية لمريم كالكنائس الغربية.
ومنه قول الاب «لويس شيخو» في مقالة له فيه عن الكنائس الشرقية: «إن تعبد الكنيسة الارمنية للبتول الطاهرة أم الله لامر مشهور» وقوله: «قد امتازت الكنيسة القبطية بعبادتها للبتولة المغبوطة ام الله» انتهى كلامه.